أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ، فَقَالَ: "أَلَكَ مَالٌ؟" قُلت: نَعَمْ، قَالَ: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟" قُلت: قَدْ آتَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ".
فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ
عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أصحابه كيف يأخذون من الدنيا حظهم من غير إسراف ولا تقتير، ويدعوهم إلى التمتع بالطيبات بالقدر الذي لا يخرج بهم عن حد الاعتدال، ويوصيهم بأن يأخذوا حذرهم من التكلف في الزهد، والإهمال في مطالب الجسد الضرورية، ويرسم لهم الطريقة المثلى في استغلال ما آتاهم الله من فضله في الحدود التي يحبها الله ويحبها الناس، فالله جميل يحب الجمال، والناس أيضاً يحبون الرجل الذي يظهر بمظهر جميل يريح العين، ويناسب ما جرى عليه العرف الذي يقره الشرع ويرتضيه.
ولذلك أمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك بن عوف والد أبي الأحوص أن يكون مظهراً لنعمة الله عليه معبراً عنها باتخاذ ما يناسب حاله من الغنى؛ لأن الإسلام دين الوسطية والاعتدال.
قال مالك بن عوف راوي هذا الحديث:
"أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ".
أي قديم بال ممزق وسخ.
فقال له النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَلَكَ مَالٌ؟"
وهو سؤال له ما بعده.
فهو بهذا السؤال يوحى إليه بما يريد أن يوصيه به وينبهه على تقصيره في حق نفسه، ولا يخفى ما فيه من إنكار عليه أن يظهر بهذا المظهر وهو ذو مال كثير.
وربما يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يعطيه ثوباً من عنده إذا كان فقيراً.
فإن كان يعرفه، فهو ينكر عليه تفريطه في حق نفسه، وإن لم يكن يعرفه، فهو يريد أن يتحسس حاله ليعطيه مما آتاه الله من فضله.
وشأن المعلم دائماً إذا أراد أن يأمر بأمر هام أو يوصي بوصية نافعة – أن يمهد لها بسؤال يوحي بها ويشير إليها من قريب أو من بعيد.
والنابه الذكي يلمح ما بعد السؤال فيهيء نفسه لسماعه وتقبله.
قال مالك بن عوف: قلت نعم.
وهذه الإجابة تمهد لسؤال آخر لابد منه فقال له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟". وكان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرف ما كان يملكه العرب من الأموال، فهي لا تخرج عما هو معروف في شبه الجزيرة العربية، وقد كانوا يطلقون هذا اللفظ على الأنعام بأنواعها الثمانية، والخيل والبغال والحمير، ثم الذهب والفضة والرقيق.
قال مالك بن عوف: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق.
وكأنه يتحدث بنعمة الله عليه، وقد عرف منه النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فقال له:
"فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ".
أي ما دام الله قد أعطاك مالاً فأنفق منه على نفسك فحسن ملبسك؛ تحدثاً بنعمة الله عليك؛ فإن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده إذا أظهرها عبده من غير بطر ولا خيلاء، وفي غير إسراف ولا تبذير.
وينسحب هذا أيضاً على الطعام والشراب والفراش وما إلى ذلك من طيبات الحياة.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين له ولنا ما جاء في كتاب الله تعالى من الحث على التمتع بالطيبات.
كقوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }
(سورة المائدة: 87-88).
وقوله تعالى ممتناً على عباده:
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
(سورة الأعراف: 26)
وقوله جل شأنه:
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
(سورة الأعراف: 31-32).
فمن المستحب أن يأخذ المسلم حظه من دنياه بغير سرف ولا تقتير؛ إيماناً منه بأن الفضيلة وسط بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط، وأن الإسلام دين الوسطية، وهي القصد والاعتدال في جميع الأمور.
وقد جاء في أوصاف عباد الرحمن من سورة الفرقان:
{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }
(آية: 67).
أي: كان الأنفاق وسطا بين الإسراف والتقتير، فالقوام هو الشيء المعتدل كما هو معروف في كتب اللغة.
وهذا الحديث حجة على من يدعي أن الزهد في الدنيا هو التقشف والخشونة والحرمان من المتع الحلال، فيلبسون أخس الثياب وأخشنها، ويظهرون أمام الناس بمظهر مقزز مخالف لما جرى به العرف والتقاليد، ويفرضون ذلك على أتباعهم ومريديهم، ويدعون أنه الورع الذي إليه الدين ويرضى عنه رب العالمين.
إن الزهد في الدنيا معناه الاقتصار على الحلال الطيب من غير إسراف ولا تقتير ولا إعجاب ولا خيلاء.
والورع هو ترك الشبهات؛ استبراء للدين والعرض، وترك الجائزات إذا كانت تؤدي حتماً إلى الوقوع في المحرمات.
وهذا الحديث برهان على سماحة الإسلام واتساع أفقه وصلاحيته لكل زمان ومكان، فهو دين واقعي في منهجه، تقوم أحكامه على تحقيق ما تقتضيه الفطرة وتتطلبه الظروف والمناسبات.
فالمسلم ينبغي أن يظهر بالمظهر اللائق بشخصه وسنه وعلمه ووظيفته وغير ذلك مما يتميز به عن سواه، بحيث يبدو كل مسلم في مظهر حسن يعبر عن دينه الذي يعتنقه، ويدل على يسره وسماحته ومسايرته لجميع الظروف والأحوال في جميع الأزمنة والأمكنة.
فالمسلم صورة صادقة للإسلام في أقواله وأفعاله وسائر أحواله.
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة

وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً
من المباديء التي ينبغي أن نفهمها من الإسلام، أن أي عمل مشروع من أعمال الدنيا، يصير طاعة لله تبارك وتعالى، وسبباً للثواب عنده، إذا عمره الإخلاص والنية الطبية، والمقصد الكريم، حتى ولو كان هذا العمل أكلاً أو شرباً أو لبساً أو شهوة.
غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ
هذه الوصية تُرينا بوضوح أن أخذ الحذر واجب، والاحتياط مطلوب في كل أمر يخشى منه الضرر، فأخذ الحذر يقي المرء مما يخافه ويخشاه إن شاء الله تبارك وتعالى، فهو سبب من الأسباب التي ينبغي على المرء أن يأخذ بها وليس عليه بعد ذلك أن ينتظر وقوع المسبب إلا على سبيل الرجاء في فضل الله والطمع في رحمته.
اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا
أي ما جاءكم به الرسول من ربه، فالزموه، فالأخذ في الآية معناه: اللزوم مع الفهم والإخلاص في الامتثال. وما نهاكم عن قوله وفعله، فاحذروه وكفوا عنه؛ فهو من تتمة الامتثال، فالطاعة تتمثل في الاتباع التام في هذه وذاك.
الرَّجُلُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ
وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ: عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: "لَا يَنْفَتِلْ، أَوْ لَا يَنْصَرِفْ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". هذا الحديث أصل من أصول الإسلام اس...
لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ
فمن آمن بالله إيماناً كاملاً، أحب لأخيه ما أحبه لنفسه، فإن أصابه خير هنأه. وإن أصابه ضر واساه ونفس عنه كربته وشاركه آلامه وآماله. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية يخاطب المؤمنين الذين لم يكتمل إيمانهم بعد محذراً من آفة تجلب على صاحبها البلاء، وتورثه الشقاء، وتحرمه من التمتع بطيبات الحياة، وهي الشماتة.
إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا
واعلم أن صفات الله تعالى من باب الأفعال لا من باب الانفعال، فيجب أن تؤول هذه الصفات بما يناسب ذاته العلية من التنزيه عن المماثلة. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا" أي على وجه الخصوص، وإلا فإن الله يرضى لنا ما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة وهو كثير لا يحصى، فالإيمان بضع وسبعون شعبة، تحت كل شعبة من الخص...