{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ }
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا - الدخان
العلامة الثانية من علامات قرب الساعة: "الدخان" الوارد ذكره في قوله تعالى:
(سورة الدخان: 10-12).
وقد اختلف المفسرون في هذا الدخان الذي يحمل في طياته العذاب على قولين:
وجمهور المفسرين على أنه كان ضرباً من العذاب أخذ الله به المشركين، استجابة لدعوة يقال إن النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دعا بها على مضر، فقال:
"اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ".
وقد اشتد القحط وعم الجدب، حتى أكلوا الجيف والعلهز. قالوا: وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل صاحبه ولا يراه لكثرة الدخان.. ثم إنهم جاءوا إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستشفعين، فشفع لهم، وكشف الله الضر عنهم... فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراً.
ورأى القلة من المفسرين أن هذا الدخان الذي يغشى الناس هو ما يطلع على الناس يوم القيامة من أهوالها ومرجفاتها...
ودليل الجمهور مستمد من الآيات نفسها،
فقوله تعالى:
{ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ }
(سورة الدخان: 15)
يفيد أن كشف العذاب في الدنيا وليس هو ما يفجأ الناس قبل يوم القيامة؛ إذ لا يقبل الله إيمان من آمن بعد طلوع الشمس من مغربها، أو ظهور الدجال، ولا يرفع العذال عن أحد يومئذ، وهذا يفيد أن الكشف هو لعذاب وقع بالفعل لأهل مكة، كما سيأتي بيانه بعد سطور.
وقوله تعالى:
{ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ }
(سوة الدخان: 16)
وعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المشركين الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه، بأن يؤمنوا إذا كشف الضر عنهم، فلما كشف عنهم الضر عادوا إلى ما نهوا عنه.
وهذا يعني أن الفعل الذي وقع الوعيد عليه كان في الدنيا؛ لأنه لا وعيد على ما يقع من الناس في الآخرة.
ودليلهم من السنة ما رواه البخاري عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري عن الأعمش، ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة، قال: يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذه المؤمن كهيئة الزكام، ففزعنا فأتينا ابن مسعود، قال: وكان متكئاً، فغضب فجلس فقال: يا أيها الناس، من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }
(سورة ص: 86 )
إن قريشاً أبطأوا عن الإسلام فدعا عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هُلِكُوا فِيها، أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، يَرىَ الرَّجُل مَا بَيِن السمَاء وَالأرض كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمد، جِئْت تَأمر بِصلة الرحم، وَقَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ".
فقرأ هذه الآية:
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ }
أفيكشف عنهم عذاب الآخرة إذا جاء، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله:
{ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ }
فذلك يوم بدر
{ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا }
(سورة الفرقان: 77)
فذلك يوم بدر، و
{الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ }
(سورة الروم: 1-4)
والروم قد مضى فقد مضت الأربع.
وقد أخرجه البخاري أيضاً ومسلم من حديث الأعمش ومنصور به نحوه.
وفي رواية: "فقد مضى القمر، والدخان، والروم، واللزام".
وقد ساقه البخاري من طرق كثيرة بألفاظ متعددة.
وقد يسأل سائل فيقول: كيف يقع عذاب على هؤلاء المشركين، وقد وعد الله سبحانه وتعالى النبي الكريم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما يقول الله تعالى:
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
(سورة الأنفال: 33)
فكيف هذا؟.
والجواب – والله أعلم – : أن هذا العذاب الذي لقيه المشركون من قحط أو قتل – ليس هو العذاب الذي كان يؤخذ به أقوام الرسل من قبل، والذي كان بلاءٌ شاملاً يستأصل القوم، ويأتي على كل شيء، فلا تبقى منهم باقية، كما حل بقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط... وإنما هذا العذاب الذي نزل بالمشركين – لم يكن إلا وجههً من وجوه الحياة التي كانوا يتقلبون فيها، فإذا نزل بهم قحط فقد عرفوا هذا القحط من قبل وذاقوا العذاب منه، وإن أصيبوا في أنفسهم في معركة من المعارك كيوم بدر، فما أكثر المعارك التي أريقت فيها دماؤهم وأزهقت أرواحهم، ولكن الذي يجعل لهذا العذاب الذي ينزل بالمشركين طمعاً جديداً، هو أنه يأتي من الله بدعاء النبي عليهم، وذلك فيما أصابهم من قحط، أو على يد أصحابه يوم بدر، فهذا بدر، فهذا هو الذي يجعل لهذا العذاب حساباً خاصاً عندهم، وأثراً مضاعفاً في نفوسهم.
وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ }
(سورة التوبة: 52).
فالنبي والمسلمون معه إنما يتربص بهم وينتظر أن يحل بهم عذاب من عند الله، وهو هذا القحط الذي حل بهم، أو أن يحل بهم عذاب بأيدي المؤمنين، وهو ما أصابهم على أيدي المسلمين من خزي وهوان في ميادين القتال، حتى لقد انتهى الأمر بدخول المسلمين عليهم مكة واستسلامهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإسلامهم لله رب العالمين.
ومن جهة أخرى فإن هؤلاء المشركين قد دخلوا جميعاً في الإسلام ولم يمت منهم على الكفر إلا أعداد قليلة بالنسبة لمجموعهم، سواء من مات منهم في ميدان القتال بأيدي المسلمين، أو من مات حتف أنفه.
وهذا من شأنه ألا يوقع حكماً عاماً على هؤلاء المشركين بالعذاب الأليم يوم القيامة، وذلك لأنهم سيصبحون عما قليل في عداد المؤمنين بالله.
وعلى هذا فإن ما يتهددهم به القرآن من عذاب هو العذاب الدنيوي، الذي يرونه رأى العين، والذي يكون فيه عبرة وعظة، تفتح لهم الطريق إلى الإيمان بالله، كما يقول الله سبحانه عن غزوة بدر:
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }
(سورة آل عمران: 13).
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ
الإسلام دين يدعو معتنقيه إلى التمسك بالفضائل، وهي كثيرة لا تنحصر في دائرة معينة ولكنها تشمل مناحي الحياة كلها. وهذه الفضائل على كثرتها تتبع من الإيمان وفيه نصب، فهي شعبه التي يتشعب بعضها من بعض، وتحت كل شعبة من الخصال الكريمة ما لا ينحصر.
مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ
وقد أوصانا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في أحاديث كثيرة، كان منها هذا الحديث الذي يعتبر – في نظري – من أهم الوصايا التربوية التي تتعلق بالنشئ.وذلك لأن الصلاة عماد الدين، وركنه الركين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وربه – عز وجل -، كما بينا في وصية سابقة. ولها من الفضائل الكثيرة ما عرفناه، وما لم نعرفه.
غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ
هذه الوصية تُرينا بوضوح أن أخذ الحذر واجب، والاحتياط مطلوب في كل أمر يخشى منه الضرر، فأخذ الحذر يقي المرء مما يخافه ويخشاه إن شاء الله تبارك وتعالى، فهو سبب من الأسباب التي ينبغي على المرء أن يأخذ بها وليس عليه بعد ذلك أن ينتظر وقوع المسبب إلا على سبيل الرجاء في فضل الله والطمع في رحمته.
أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ
إذا أراد الله بعبد خيراً، هداه إلى دينه القويم وصراطه المستقيم، وثبت قلبه على الإيمان الصادق فسعد بذلك في دنياه وآخرته. وعبد الله بن سلام حبر من أحبار اليهود، كان واحداً من أولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام، فاجتمع عليه لبه وقلبه فعقل عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً من الكلمات الجامعة والحكم البالغة، ووعاها وأداها كما س...
لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ
المؤمن الحق من يعرف الحق ويعرف أهله، فينصره وينصر أهله، ويدافع عنه حيثما كان، ويدعو إليه في ليله ونهاره، ويجمع قلبه عليه في حله وترحاله، ويعرف الباطل باطلاً فيجتنبه، ويدعو الناس إلى اجتنابه ويحذرهم مغبته في الدنيا وعاقبته في الآخرة، فالحق أحق أن يتبع، وليس للباطل مع الحق موضع، وليس للمبطلين على أهل الحق سبيل؛ فأهل الحق منصورون في كل مكان وزمان وإن...
اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا
أي ما جاءكم به الرسول من ربه، فالزموه، فالأخذ في الآية معناه: اللزوم مع الفهم والإخلاص في الامتثال. وما نهاكم عن قوله وفعله، فاحذروه وكفوا عنه؛ فهو من تتمة الامتثال، فالطاعة تتمثل في الاتباع التام في هذه وذاك.