عَنْ أَنس بِنْ مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: لأبي أيُّوبَ: أَلَّا أدلُّك عَلَى تِجَارةٍ؟". قَالَ بَلَى، قَالَ: "صِلْ بين النَّاسِ إذا تفاسَدوا وقرِّبْ بينهم إذا تباعَدُوا".
صِلْ بين النَّاسِ إذا تفاسَدوا
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي أصحابه رضوان الله عليهم بما يناسب كلاً منهم بحسب ما يرى فيه من المؤهلات والخصائص النفسية والخلقية والاجتماعية. فتكون وصيته في محلها أكثر نفعاً وأعظم وقعاً.
وقد لاحظت في كثير من الوصايا: أنها تعالج في نفوس من أسديت إليهم كثيراً من العقد النفسية، وتصلح كثيراً من السلوكيات الاجتماعية، وتصحح المسار لكل من تفرقت به السبل، حتى يستقيم على صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.
فقد جاءه رجل وقال: يا رسول الله، أوصني؟ قال: "لا تكذب"، وجاءه آخر فقال: أوصني؟ قال: "لَا تغضب".
وجاءه آخر فقال: أوصني؟ قال: "قُلْ آمنتُ باللهِ ثُمَّ استقِمْ".
وهكذا كان حاله مع كل من يتفرس في وجهه سمه تعجبه فيعمقها فيه، أو صفة يبغضها فينهاه عنها، ويحذره منها، ويقطع دابرها من نفسه بموعظة بليغة تبلغ أعماق قلبه.
وهذا هو أيوب الأنصاري: خالد بن يزيد بن كليب الخزرجي البخاري رضوان الله عليه يتلقى هذه الوصية من نبيه الذي غمر حبه قلبه فيجد فيها روحه وريحانه؛ لأنها من الوصايا التي يستطيع أن يقوم بتنفيذها خير قيام، بوصفه رجلاً مسموع الكلام بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار؛ لما لبه من سوابق خير حسبت له عند الله وعند الناس.
فقد آوى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته، وأكرم نزله وأحسن ضيافته وضيافة من معه من أصحابه، وظل عنده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيماً في بيته سبعة أشهر حتى بنيت حجراته، وتم بناء المسجد.
وقد كان نزوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت أبي أيوب بإرادة الله تعالى لا بإرادته هو.
فقد اصطف أهل المدينة حين هاجر إليهم أمام بيوتهم، يستقبلونه بفرح غامر يتمنى كل واحد منهم أن ينزل ضيفاً عليه. فكلما مر على بيت قال له أهله: ها هنا يا رسول الله، ها هنا يا رسول الله.
ويرد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم بلطف قائلاً، وهو يشير إلى الناقة: "خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ".
واتخذت الناقة طريقها حتى انتهت إلى بيوت أخواله من بني النجار فتعلقوا بخطامها قائلين: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، أقم عندنا فلدينا العدد والعدة والمنعة.
فقال: "خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ".
ومشت الناقة حتى بلغت بيت أبي أيوب الأنصاري فبركت أمامه.
ومن يومها عظم شأنه بين المهاجرين والأنصار أكثر من ذي قبل، وأحبوه حباً شديداً، وأطاعوه في كل أمر يأمرهم به، وهو رجل لا يأمر إلا بخير.
لذا أوصاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغتنم هذا الحب الجارف من قبل أصحابه فيصل الود بين المتقاطعين ويقرب أواصر الحب بين المتباعدين.
وهذه الوصية ليست خاصة به ولكنها نفذت إلينا من خلاله، فلنتقبلها قبولاً حسناً، ونأخذها مأخذ الجد، ونعمل بها بقدر طاقتنا وبحسب ظروفنا ووسائلنا المتاحة مستعينين بالله جل شأنه – في ذلك.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة

أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ
وفي هذه الوصية يرسم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخطى لمن أراد العزة وسعى إليها، ويحدد معالم الطريق إلى الله في تؤدة واتزان، فيسأل أصحابه البيعة على أمور تضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة، فيستوضحون منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بنود المبايعة وقواعدها وشروطها، فيجيبهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما جاء في هذا ا...
إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ
لقد كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب قلوب كبيرة سلمت من كل ما يعكر صفو الإيمان، ويكدر جلوة اليقين، فتآخوا على الحب – اجتمعوا عليه وتفرقوا عليه، وعاشوا به متعانقين يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه بما لديه ولو كان في أشد الحاجة إليه.ولقد تحقق الإخاء بينهم بكلمة الله عز وجل فانصهر المهاجرون بعضهم في بعض، وانصهر الأوس والخزر...
لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا
ولما كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم الخلق عند الله وأكرم الرسل خشى أن يُعظم قبره تعظيماً يؤدي إلى إفساد العقيدة الصحيحة، أو إساءة الأدب مع الله تبارك وتعالى – نهاهم عن المبالغة في تعظيمه حياً وميتاً.
فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ
كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم أصحابه كيف يأخذون من الدنيا حظهم من غير إسراف ولا تقتير، ويدعوهم إلى التمتع بالطيبات بالقدر الذي لا يخرج بهم عن حد الاعتدال، ويوصيهم بأن يأخذوا حذرهم من التكلف في الزهد، والإهمال في مطالب الجسد الضرورية، ويرسم لهم الطريقة المثلى في استغلال ما آتاهم الله من فضله في الحدود التي يحبها الله ويحبها ا...
جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ
كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة على كل مسلم قادر على نفقاتها وتبعاتها، فقد فتح الله بابها بعد بيعة العقبة الثانية للأنصار، وذلك بعد البعثة بثلاث عشرة سنة تقريباً، ولم يغلق بابها إلا بعد فتح مكة حين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ". وقد بايعه الأنصار على أن ينصروه...
أَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ
الاسم دليل على صاحبه؛ فهو يسمو به ويحدده فيعرف به إذا ما ذكر. والاسم الحسن يحمل لصاحبه ولمن يسمع ذكره فألا حسناً، ويبعث في نفسه نشوة يستعذبها ويسر بها. والاسم القبيح على الضد من ذلك، وله على النفس آثار سيئة، فربما يتعقد الطفل منه حين ينادي به فيتوارى من الناس خجلاً، أو يعتزلهم فيصاب بعقدة الانطواء، وتلازمه هذه العقدة طول حياته.