"اتجِرُوا فِي أَمْوَّالِ اليَتَامَى؛ لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ".
اتجِرُوا فِي أَمْوَّالِ اليَتَامَى
عَنْ أَنس بِنْ مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ:
الإسلام يحمي الضعفاء – كاليتامى – من أن تنالهم أيدي الظالمين، ويصون أموالهم من الضياع بتشريعاته الصارمة وإرشادته القيمة، فلا يدع يتيماً عرضة للمهانة والمذلة والازدراء، ولا يترك ماله نهباً لأصحاب القلوب القاسية والضمائر الميتة، أو يسمح للخاملين أن يجمدوها حتى تتناقص شيئاً فشيئاً، ثم تزول ويبقى اليتيم بلا مال، فيكون عرضة للمذلة والهوان.
وقد تقدم الكلام في شأن كفالة اليتامى وبرهم والإحسان إليهم، وجاءت هذه الوصية تأمر أوصياءهم بحفظ أموالهم وتنميتها بالاتجار فيها؛ حتى لا تتناقص بسبب إخراج الزكاة منها.
وهذه
الوصية ترجمة جزئية لقوله تعالى:
{ وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً }
(سورة النساء: 5).
أي وارزقوهم م ريعها ولا ترزقوهم من أصلها فتنفد.
ولو قال سبحانه: "وارزقوهم منها" لفات هذا المعنى الذي أشارت إليه الآية، وأشار إليه الحديث إشارة جزئية.
وقلنا إنها ترجمة أو إشارة جزئية للآية لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علق هلاكها على جزئية واحدة وهي الزكاة مع أن أسباب هلاكها كثيرة، كالنفقة منها بإسراف على طعامه وشرابه، وكسائه وفراشه، وتعليمه وغير ذلك.
والسفهاء في الآية: هم الذين لا يحسنون التصرف إما لصغرهم أو خفة عقولهم.
فإذا كان للصغير من اليتامى وصي لا يحسن التصرف، تولى أمره من يحسنه من أقرب الناس إليه من جهة العصبة، فإن لم يكن له من جهة عصبته من يحسن التصرف في شأنه وشأن ماله، تولى أمره رجل من ذوي رحمه كأخيه لأمه أو خاله كما أشرنا في الوصية السابقة، فإن لم يكن هناك من يحسن التصرف من أقاربه مطلقاً ين الحاكم له وصياً من جهته، وراقبه في تصرفاته بنفسه أو بواسطة من يثق فيهم.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتجِرُوا" معناه: اعملوا في ماله بما ينميه من تجارة أو صناعة أو ما أشبه هذا وذاك من الأعمال المنتشرة في هذا العصر.
وإنما قال:"اتجِرُوا" ولم يقل: اعملوا لأن غالب الأعمال يؤمئذ كانت تجارية في الغالب.
وكل ربح في الواقع إنما يتأتى عن طريق التبادل في المنافع العامة والخاصة والتجارة ما هي إلا تبادل منافع بأي أسلوب مشروع، يقوم على العدل والتراضي. فكل الناس تجار على الحقيقة يتفاوتون جميعاً في شئون الحياة بقانون المصلحة حتى أصبحت التجارة الآن تشمل مناحي الحياة كلها.
لهذا كان الأمر بالاتجار هو أولى من قوله: اعملوا في أموال اليتامى أو نموها.
إن الله عز وجل سمي العبادة والعمل الصالح تجارة؛ لأن ذلك يعود على العبد بالمنافع العاجلة والآجلة.
فقال
جل شأنه:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }
(سورة فاطر: 29-30).
وقال
في شأن المنافقين:
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
(سورة البقرة: 16).
فالتجارة إذا مدلولها بعيد المدى، لا يقتصر على المعنى المشهور فيما بيننا.
المهم في الأمر أن ينمي الوصي مال اليتيم ولا يجمده، وينفق عليه من ربحه لا من أصله.
وهذا هو السر في قوله: "فِي مَال اليَتَامى" إذ لم يقل: اتجروا بها.
ولو قال اتجرو بها لفات أمران لابد من حصولهما.
الأول: ما ذكرنها من تنمية ماله واستغلاله بالطرق الشرعية.
الثاني: ألا يتجر بالمال كله فيغامربه ولكن يتجر في جزء منه، فإذا ربح في التجارة وعرف كيف يستغل المال أضاف إلى التجارة جزءاً آخر بقدر ما تسمح به الظروف.
فلو قال: اتجروا بأموال اليتامى، لتوهم متوهم أن الاتجار يجوز بجميع أموالهم، وهذا لا يجوز في نظري؛ لما فيه من المخاطرة ولا سيما في هذه الظروف المعاصرة؛ فإنها دائمة التقل بعيدة الأغوار، يحتاج المرء فيها إلى فهم واسع بهذه المتغيرات، وتدريب طويل على فنون التجارة بكافة أنواعها، وخبرة تامة باحتياجات الأسواق ومقتضياتها وألاعيبها.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاة" معناه لئلا تأكلها الزكاة. فحذفت اللام مع أن تخفيفاً، وفي هذا دليل على أن الزكاة تجب في مال اليتيم على الوصي، يخرجها بالنيابة عنه في كل حول، وإخراج الزكاة من المال مع الاتجار فيه لا ينقص منه شيئاً يذكر.
ولا يخفى ما في إخراجها من صيانة للمال من الضياع لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَاووا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَصَّنُوا أَمْوَالُكُمْ بِالزَّكَاةَ".
ونخلص من هذا إلى أن الأموال لا ينبغي تجميدها بحال، حتى لو كان ليتيم فقد أباه؛ لأن المال شركة بين الناس جميعاً ينتفع به صاحب وآخرون من دونه يعملون فيه ويتعيشون منه، فإذا تجمد المال تأخر ركب الحياة، أو توقف؛ لأن المال عصب الحياة وشريانها الحيوي، فهو الطاقة الفعالة التي تبني وتعمر.
وبدون هذه الطاقة لا يتحق شيء من العمران؛ فالحياة تقوم على أربعة أسس: الرجال، والمال، والعلم، والعمل.
نفهم هذا من القرآن والسنة وإجماع الأمة، ففي نظام المال في الإسلام نظريات متعددة المناحي بحسب تعدد شئون الحياة.
كل نظرية منها تخدم جانباً من جوانبها، وتجتمع كلها في إطار واحد وهو رعاية مصالح العباد في العاجل والآجل.
ونستخلص مما ذكرناه: أن رعاية أموال اليتامى ضرورة اجتماعية واقتصادية وإنسانية بوجه عام، وأن الزكاة واجب شرعي في المال بوجه عام بالشروط المنصوص عليها في كتب الفقه كبلوغ النصاب ومرور الحول وما إلى ذلك.
وهي نظام اجتماعي لو أُحسن القيام به ما كان هناك جائع ولا عريان، ولا سائل ولا محروم.
فانظر – أيها الأخ المسلم – في هذه الوصية وخذ منها ما ينفعك، وسل لله عز وجل أن يفقهك في الدين ويعلمك التأويل.
والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة

إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا
واعلم أن صفات الله تعالى من باب الأفعال لا من باب الانفعال، فيجب أن تؤول هذه الصفات بما يناسب ذاته العلية من التنزيه عن المماثلة. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا" أي على وجه الخصوص، وإلا فإن الله يرضى لنا ما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة وهو كثير لا يحصى، فالإيمان بضع وسبعون شعبة، تحت كل شعبة من الخص...
لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ
المؤمن الحق من يعرف الحق ويعرف أهله، فينصره وينصر أهله، ويدافع عنه حيثما كان، ويدعو إليه في ليله ونهاره، ويجمع قلبه عليه في حله وترحاله، ويعرف الباطل باطلاً فيجتنبه، ويدعو الناس إلى اجتنابه ويحذرهم مغبته في الدنيا وعاقبته في الآخرة، فالحق أحق أن يتبع، وليس للباطل مع الحق موضع، وليس للمبطلين على أهل الحق سبيل؛ فأهل الحق منصورون في كل مكان وزمان وإن...
لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وهذ التلقين خاص بالمسلم كما هو ظاهر.أما الكافر المحتضر فيعرض عليه الإسلام لحديث أنس "أَنَّ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَضَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءَهُ، وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ قَاعِدٌ عِنْدَ رَأْسِهِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِ...
غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ
هذه الوصية تُرينا بوضوح أن أخذ الحذر واجب، والاحتياط مطلوب في كل أمر يخشى منه الضرر، فأخذ الحذر يقي المرء مما يخافه ويخشاه إن شاء الله تبارك وتعالى، فهو سبب من الأسباب التي ينبغي على المرء أن يأخذ بها وليس عليه بعد ذلك أن ينتظر وقوع المسبب إلا على سبيل الرجاء في فضل الله والطمع في رحمته.
مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ
وقد أوصانا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في أحاديث كثيرة، كان منها هذا الحديث الذي يعتبر – في نظري – من أهم الوصايا التربوية التي تتعلق بالنشئ.وذلك لأن الصلاة عماد الدين، وركنه الركين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وربه – عز وجل -، كما بينا في وصية سابقة. ولها من الفضائل الكثيرة ما عرفناه، وما لم نعرفه.
إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ
ومن أعظم هذه الصلات الأُخوة الإيمانية، فهي العروة الوثقى بين عباد الله الصالحين، بين أمة لا إله إلا الله أجمعين من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فالأخوة الإيمانية مدلولها واسع يشمل الإنسانية المؤمنة كلها.