أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا، ثُمَّ قَالَ أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَجِدُ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ؛ فَإِنَّ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً".
إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
تواصلت أخلاق النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتشابك بعضها في بعض وتكونت من خلالها عبقريته الشخصية، فكان كل خلق من أخلاقه مفتاحاً لشخصيته؛ لأنها استوت جميعا في السمو والرفعة، وبلغت جميعاً حد الكمال البشري، فلا يقال: مفتاح شخصيته الحلم، أو الرحمة، أو العدل، أو الشجاعة، ولكن يقال: مفتاح شخصيته الخلق العظيم، كما وصفه ربه عز وجل بقوله:
{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }
(سورة القلم: 4).
فقد خصه الله دون سواه بهذا الوصف؛ كما يُشعر به الضمير المفرد في قوله: { وَإِنَّكَ }، وأكد هذا الوصف بكل أدوات التوكيد، وقال: { عَلَى خُلُقٍ } ولم يقل: "ذو خلق" للدلالة على أنه قد استعلى بخلقه على كل ذي خلق، وتمكن من الفضائل كلها وتمكنت منه الفضائل وتجسدت فيه، فكان صورة لها، يعبر عنها تعبيراً صادقاً في عاداته وعباداته ومعاملاته.
ونحن نعلم أن "على" حرف استعلاء وتمكن واستيلاء، ولا يأتي التعبير بها عوضاً عن غيرها إلا للدلالة على بلوغ الغاية في الوصف.
وهذا كقوله تعالى في وصف المتقين:
{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ }
(سورة البقرة: 5)
أي: أولئك الذين تمكنوا من الهدى وتمكن الهدى منهم، فكانوا على الهدى لمن استهدى أدلاء.
وإن أردت أن تصف أخلاق النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقل: إن العدل شريعته، والرحمة مهجته، والحلم رائده، والكرم ديدنه.
وأفضل من هذا وصف عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حين سئلت عن خلقه، فماذا قالت! قال: "كان خلقه القرآن"
نعم. كان خلقه القرآن؛ فقد عمل به نصاً وروحاً حتى تقرأن. فبدا للناس قرآناً يمشي بينهم، تراه أعينهم كما تسمعه آذانهم.
وهذه الوصية مرآة نرى فيها مفتاح شخصيته وأصول عبقريته تتألق في حلمه وعفوه وعدله وكرمه، وبُعد نظره في السياسة وتدبير الحكم ودعوة الناس إلى الحق والمثل العليا بالحكمة والموعظة الحسنة من غير تكلف ولا اعتساف.
يروي أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رجلاً أتى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقاضاه، يعني يطلب منه قضاء الدين الذي له عنده، ولكن هذا الرجل لم يطلب حقه بأسلوب حسن، بل أغلظ له في القول ولم يراعِ الأدب معه وهو خير خلق الله؛ وذلك لأنه أعرابي جلف، كما جاء في بعض الروايات التي ذكرها ابن حجر وغيره.
وقيل: إنه كان يهودياً. والأصح الأول.
فَهَمَّ أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضربه لكنهم لم يفعلوا؛ توقيراً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتظار لما يأمرهم به، وقد تعلموا منه الأدب وحسن الخلق والصبر على المكاره والتأتي في اتخاذ القرار، والتثبت في الأمور، والإحجام عن فعل قد يندمون عليه.
وكان لهذا الرجل على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعير، قد أخذه منه لحاجة المسلمين.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: "دعوه" أي: اتركوه وشأنه معي ولا تؤذوه بأيديكم ولا بألسنتكم، والتمسوا له العذر في ذلك، فهو أعرابي غليظ الطبع؛ وهذا شأنه عند الطلب، ولم يجلس إلى معلم، وله حق يطلبه، وقد يكون في أمس الحاجة إليه، وللضرورة حكمها.
وعلل هذا الأمر بقوله: "فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا" أي صولة في الطلب وقوة في الحجة.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ"
أي: بعيراً مثل بعيره. وسمى البعير سنا لأن له سناً يعرف به.
قال العيني في عمدة القاريء شرح صحيح البخاري: وأسنانها معروفة في كتب اللغة إلى عشر سنين: ففي الفصل الأول حوار، ثم الفصيل إذا فصل، فإذا دخل في السنة الثانية فهو ابن مخاض أو ابنة مخاض، فإذا دخل في الثالثة فهو ابن لبون أو بنت لبون، فإذا دخل في الرابعة فهو حق أو حقه، فإذا دخل في الخامسة فهو جذع أو جذعة، فإذا دخل في السادسة فهو ثنى أو ثنية، فإذا دخل في السابعة فهو رباعي أو رباعية، فإذا دخل في الثامنة فهو سديس أو سدس، فإذا دخل في التاسعة فهو بازل، فإذا دخل في العشرة فهو مخلف، ثم ليس له اسم بعد ذلك، إلى آخر ما قال.
قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أمثل من سنه، أي: إلا أفضل من بعيره.
قال عليه الصلاة والسلام: "أَعْطُوهُ؛ فَإِنَّ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً"، أي: أعطوه ما وجدتموه ولا تبخلوا عليه به؛ فإن خيركم أحسنكم قضائ للدين وإكراماً لصاحبه.
فأعطوه سناً خيرأ من سنه، فرضى الرجل وفرح بما أوتي وأثنى على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما هو أهله.
فقد جاء في رواية البخاري:
عن أبي هريرة – أيضاً – قَالَ:
كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَلُ سِنٍّ مِنَ الْإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ أَعْطُوهُ، فَقَال: أَوْفَيْتَنِي وَفَى اللَّهُ بِكَ ، قَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً"
ومن هذا الحديث نتعلم كثيراً من الأخلاقيات والمثل العليا.
1- نتعلم أولاً كيف يكون تواضع العظماء لمن هو أقل منهم شأناً في العلم والجاه والنسب وغير ذلك من الأمور التي يتفاخر الناس بها فيما بينهم. والتواضع من غير منقصة خير كله ورفعة ما بعده رفعة، ولا سيما إذا كان المتواضع عظيماً في خلقه وخلقه، وجاهه ومنصبه، وحسبه ونسبه.
والتواضع للناس هو في الحقيقة تواضع لله؛ فإن المتواضع قد عرف نفسه على حقيقتها، وعرف ربه من خلال معرفته بنفسه فأيقن أن الناس سواسية كلهم لآدم وآدم من تراب، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وأنه لا محل للتفاخر بالأنساب وهي لا تقدم الإنسان على غيره يوم القيامة.
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ }
(سورة المؤمنون: 101).
"مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ"
كما قال عليه الصلاة والسلام. ولقد كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المثل الأعلى في التواضع ولين الجانب؛ فقد كان لا يفرق في مجلسه بين حر وعبد، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير؛ فالكل عباد الله، وخيرهم أتقاهم وأنفعهم لنفسه وللناس.
طلب منه أشراف قريش أن يجعل للفقراء والضعفاء والعبيد يوماً يجلس فيه إليهم، ويجعل لهم يوماً يجلس إليهم فيه.
وقبل أن يراود نفسه في ذلك كفاه الوحي مؤنة التفكير في ذلك، فنزل قوله تعالى:
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }
(سورة الكهف: 28).
فقام النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعانق بلال بن رباح وصهيب الرومي وعمار بن ياسر وغيرهم من الفقراء والمساكين.
وفي السيرة النبوية كثير من صور التواضع ذكرنا بعضها في هذا الكتاب، ونذكر منها إن شاء الله طرفاً آخر في وصايا أخرى.
2- ومن هذه الوصية نتعلم كيف يكون كظم الغيظ في مواطن الغضب، وكيف يكون الحلم على من أساء وظلم، وكيف يكون العفو عند المقدرة.
والمرء لا يتعلم محاسن الأخلاق إلا بالقدوة.
والقدوة إنما تكون من عظيم بمن هو أعظم منه؛ فكل عظيم له مثله الأعلى الذي يحاكيه ويأنسى به.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أعظم العظماء بلا منازع، وهو أسوة الخلق جميعاً في الخلق الفاضل والسلوك النبيل، ولكن لا يأنسى به إلا المؤمنون الذاكرون.
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }
(سورة الأحزاب: 21).
3- ونتعلم من هذه الوصية كيف نكون أوفياء لأصحاب الحقوق علينا، فلا نخلف لهم وعداً، ولا نخون لهم عهداً، ولا نلتمس لهم العثرات فنحيف عليهم ونقصر في تأدية الواجب لهم، بل نقابل الفضل بالفضل والإحسان بالإحسان.
4- ونتعلم من هذه الوصية أن نكون أكرم ممن بدأنا بالإكرام؛ عملاً بعموم قوله :
{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }.
فمن أسدى إلينا معروفاً شكرناه عليه باللسان، وترجمنا هذا الشكر بمعروف أعظم منه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، فإن لم نستطع رددنا إليه المعروف بمثله؛ فالعدل واجب والفضل يدعمه، فمن لم يستطع أن يكون من أهل الفضل – فليكن من أهل العدل.
فإن الأعرابي حين أغلظ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الطلب – لم يكن له إلا ما يطالب به وهذا هو العدل؛ لذا قال:
"أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ".
فلما لم يجدوا سناً إلا أحسن من سنه – قال: "أَعْطُوهُ" فكانت هذه العطية عدلاً وفضلاً معاً.
والرجل لم يكن يستحق إلا سناً مثل سنه، ولكن الوفاء فرض على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتنازل بطيب نفس عن هذه الزيادة.
ومن هنا رأى الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ومن نحا نحوه أن الرجل إذا كان عليه دين فحان أجله جاز أن يعطي صاحب الدين أكثر من دينه تفضلاً منه ما لم يكن هناك شرط في الزيادة أو كان هناك عرف في البلد يقضي بالزيادة.
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أعطى الرجل أحسن من سنه؛ تكرماً وتفضلاً ولم ير في ذلك بأساً، فدل على أن الزيادة بهذين الشرطين جائزة، بل تكون من المستحبات التي يؤجر عليها صاحبها.
5- ومن هذا الحديث نتعلم أن العاقل هو من يعرف كيف يعامل كل امريء على حسب حاله، فإن كان جاهلاً عذره بجهله، وإن كان سفيهاً لم يحاسبه على سفهه، وإن كان غضوباً التمس له العذر إذا غضب عليه، وإذا كان له عليه دلال بسبب صحبة أو قرابة – لم يعاتبه على ما صدر منه.
وهكذا يعطي كل امريء ما يناسبه من المعروف بحيث يحتفظ لنفسه بما جبلت عليه من مكارم الأخلاق، فيخاطب الناس على قدر عقولهم، وينزلهم منازلهم، ويعرف لكل ذي فضل فضله، ويتصرف في كل حال بما يناسبها مع توخي العدل والفضل والإحسان في القول والعمل. والحلم سيد الأخلاق.
6- وخلاصة القول في هذه الوصية أنها قاعدة من قواعد السلوك الحسن مع من أساء وظلم في حدود ما شرع الله عز وجل، بمعنى: أن إكرام الكريم واجب، والحلم على غير أهل الحلم مستحب؛ إذا لم يكن باعثاً لهم على التمادي في الشر والبطر.
فإن رأينا أن الحلم مع غير أهل الحلم يؤدي إلى تمردهم علينا استبدلناه بشيء من القسوة؛ زجراً له وردعاً لأمثاله.
قال الشاعر:
قسا ليزدجروا ومن بك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم
وقال آخر:
إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا
أي ما جاءكم به الرسول من ربه، فالزموه، فالأخذ في الآية معناه: اللزوم مع الفهم والإخلاص في الامتثال. وما نهاكم عن قوله وفعله، فاحذروه وكفوا عنه؛ فهو من تتمة الامتثال، فالطاعة تتمثل في الاتباع التام في هذه وذاك.
بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا - الدخان
وقد اختلف المفسرون في هذا الدخان الذي يحمل في طياته العذاب على قولين:وجمهور المفسرين على أنه كان ضرباً من العذاب أخذ الله به المشركين، استجابة لدعوة يقال إن النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دعا بها على مضر، فقال: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ". وقد اشتد القحط وعم الج...
مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ
والتأدب مع الله من أعظم المقامات التي يرتقي إليها الراسخون في العلم، ومن خلاله يكون الأدب مع الناس؛ لأن العبد إذا عرف الله بأوصافه الكمالية على قدر طاقته البشرية – عرف ما يحبه الله، فأتى به على أكمل وجه، وعرف ما يبغضه فاجتنبه؛ حياءً منه وطاعة له، وابتغاء لمرضاته وطمعاً في عظيم فضله وواسع رحمته.
لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ
فمن آمن بالله إيماناً كاملاً، أحب لأخيه ما أحبه لنفسه، فإن أصابه خير هنأه. وإن أصابه ضر واساه ونفس عنه كربته وشاركه آلامه وآماله. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية يخاطب المؤمنين الذين لم يكتمل إيمانهم بعد محذراً من آفة تجلب على صاحبها البلاء، وتورثه الشقاء، وتحرمه من التمتع بطيبات الحياة، وهي الشماتة.
اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِن
الفراسة – بكسر الفاء – هي: المهارة في تعرف بمواطن الأمور من ظواهرها، واستخلاص الرأي السديد من الآراء المتعددة. وهي النظر الثاقب فيما يُرى ويُسمع، والبصر النافذ فيما يضر وينفع. والتفرس في الأمور قد يكون مبنياً على الذكاء المفرط، والحنكة في التجربة، والخبرة بعادات الناس وظروف الحياة.
اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا
كان النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يعني عناية فائقة بتسوية الصفوف في الصلاة لأن الصلاة في جماعة دليل على ائتلاف القلوب وتآخيها على الإيمان، فكلما كانت الصفوف متساوية كالبنيان المرصوص كانت القلوب أشد اتفاقاً وائتلافاً على المودة والرحمة والإخلاص. فالصلاة عماد الدين وركنه الركين، وهي برهان صحة الإيمان وسلامة اليقين، فكان الاجتم...