قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَالْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي".
لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كثرة الكلام من غير ذكر الله تعالى – لغو لا مبرر له، ولا خير فيه، ولا طائل تحته، فهو تبعة من التبعات التي يتحملها المرء ويبوء بإثمها ويتعثر بسببها في مناحي الحياة كلها.
وقد قالوا: من قل كلامه، حمدت عاقبته.
وقالوا: من كثر لغطه، كثر غلطه.
وقالوا: إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب.
وقال عمرو بن العاص: الكلام كالدواء، إن قللت منه نفع، وإن أكثرت منه ضر.
وقال لقمان الحكيم: إن من الصمت لحكماً وقليل فاعله.
وخير الكلام ما قل ودل.
والإيجاز في الكلام: ضرب من الإعجاز البياني.
فمن أراد أن يتكلم، فليجعل لسانه وراء قلبه، لا يتكلم بالكلمة إلا إذا عرف معناها ومرماها؛ لأن الكلمة محسوبة عليه، إذا خرجت من فيه لا يستطيع لها رداً، واعتذاره منها قد لا يجدي نفعاً.
لقد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إلا قيلا
ورحم الله امرأ تكلم فغنم أو سكت فسلم.
وخيرهم: من يتحرى الكلمة التي تسد مسدها وتصيب موضعها وتكون موافقة لقواعد الأدب.
يقول الله عز وجل:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
(سورة الأحزاب: 70-71).
فالأقوال السديدة تنتج آراء رشيدة، ومن خلال هذه الآراء تتحدد جهاتها وميادينها وآثارها القريبة والبعيدة، فمن قال قولاً سديد – أصلح الله عمله، وبصلاح عمله يكتب له الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، فتدبر آيات القرآن لتفقه معانيها ومراميها، وبالله توفيقك.
والنهي عن كثرة الكلام ليس على إطلاقه في هذه الوصية، وإنما هو منصب على الكلام الذي يخلو على كثرته من ذكر الله عز وجل.
والكلام المفيد أربعة أنواع:
الأول: الموجز البليغ، وهو ما كان قليل الألفاظ كثير المعاني.
الثاني: المساوي، وهو الذي تتساوى ألفاظه مع معانيه.
الثالث: المطنب، وهو الكلام الطويل الذ لا يخلو من الفائدة.
الرابع: المسهب، وهو الكلام الطويل الخالي عن الفائدة.
وأبلغ الأنواع هو الموجز، فالإيجاز ضرب من الإعجاز، وهو ما يسمى بجوامع الكلم.
والقرآن كله مبني على الإيجاز.
وكلام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً مبني على الإيجاز، فقد أوتى جوامع الكلم فكان أسلوبه في البلاغة دون أسلوب القرآن وفوق أساليب البلغاء مجتمعين.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية يحذرنا من خلو كلامنا من ذكر الله سواء قل كلامنا أم كثر.
فذكر الله عز وجل يعطي الكلام رونقاً وجمالاً، ويضفي عليه هيبة وجلالاً ويزيد المتكلمين خشوعاً وامتثالاً لله عز وجل، ويجعل الله في كلامهم خيراً وبركة، ويكون الذكر مكفراً لما بدر منهم أثناء كلامهم من خطايا.
والذكر أيضاً يرقق القلوب القاسية، ويشرح الصدور الضيقة، ويفسح المجال للعقل في التأمل والنظر، ويعينه على إدراك ما في هذا الكون الفسيح من آيات بينات دالة على وحدانية الله وقدرته.
إن ذكر الله عز وجل يعمق جذور الإيمان في القلوب المؤمنة ويثبتها تثبيتاً لا يزعزعه شك ولا تعتريه شبهة.
إن ذكر الله عز وجل هو النعيم الأبدي الذي لا يعدله نعيم دنيوي ولا أخروي.
قال عالم من العلماء العاملين: "عجبت لمن يخرج من الدنيا ولم يستمته بنعيمها!
قالوا: أو في الدنيا نعيم يا رجل!
قال: نعم قيها نعيم يعدل نعيم الجنة.
قالوا: وما هو؟
قال: ذكر الله".
وقد صدق كل الصدق فيما قال، ومن ذاق عرف ومن حرم انحرف.
وأهل الجنة في الجنة لا يتمتعون بشيء إلا وهم يذكرون الله، فذكر الله هو المتعة في الحقيقة وما سواه من النعيم تابع له ومنضم إليه، وموجب لشكر الله عليه.
فإن أهل الجنة إذا أرادوا متعة سبحوا بحمد الله وإذا انتهوا منها إلى غيره حمدوا الله.
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
(سورة يونس: 10).
والكلام إذا خلا من ذكر الله كان على المتكلم وبالاً وخذلاناً وإفساداً لقلبه وإطفاءً لنور بصيرته، ولا سيما إذا طال وكثير من الغلط واللغط واللغو والغيبة والنميمة وما إلى ذلك من الأوزار.
إن القلب يلين بذكر الله ويقسو بتركه، وتشتد قساوته كلما ابتعد صاحبه عن مجالس الذكر، حتى يصير أشد قساوة من الحجارة، فلا يتأتى إصلاحه بعد ذلك فيموت ولا يحيا أبداً.
يقول الله عز وجل:
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }
(سورة الرعد: 28)
أي بذكر الله وحده تطمئن القلوب وتستنير بنور الإيمان فتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص كما هو معروف في علم البلاغة.
والويل كل الويل لمن غفل عن ذكر الله، فإنه يظل في غفلته حتى يأتيه الموت فينتبه حيث لا يفيده، الانتباه، ويندم حيث لا يفيده الندم،
{ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }
(سورة الفجر: 23-24).
والغافل عن ذكر الله شيطان رجيم لا قلب له ولا ضمير فلا ينفع فيه وعظ ولا زجر.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }
(سورة ق:37)
أي لمن كان له قلب لين رطب بذكر الله أو ألقى أذنه للذكرى وهو حاضر البديهة صافي الذهن.
ويقول الله عز وجل:
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
(سورة الحج: 46).
والويل كل الويل لمن جلس في مجلس ذكر ولم يكن من الذاكرين؛ لأنه قد برهن بذلك على عدم إيمانه؛ إذ لو كان مؤمناً لذكر الله معهم ولو بلسانه فإن الذكر باللسان قد يجلب الذكر بالقلب في نهاية الأمر
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }
(سورة الذاريات: 55).
فإذا لم ينتفع بالذكرى كيف يكون مؤمناً.
{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا }
(سورة الأعلى: 9-13)
أي سينتفع بالذكرى من يخشى الله ويتقيه، ويبتعد عنها الأشقى الذي غلبته شقاوته فكان من الضالين المكذبين.
"وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي" أي صاحب القلب الذي لا يتفتح للموعظة ولا يستجيب للنصح، ولا يعي ما يلقى إليه ولا يتعقله، فهو قلب أصم أعمى محجوب عن نور الله وهداه.
يقول الله عز وجل:
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
(سورة الزمر: 22)
أي هل يستوي من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه في أمور دينه ودنياه ومن ليس كذلك.
وهذا كقوله تعالى:
{ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }
(سورة محمد: 14).
فويل للذين نفرت قلوبهم من ذكر الله، وسخروا من الذاكرين فكانوا كما قال الله فيهم:
{ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
(سورة الزمر: 45).
ويؤخذ من هذه الوصية فوق ما ذكرناه أن المسلم الذي يخشى الله ويتقيه هو الذي يكثر من ذكر الله، فيكون كلامه كله أو جله ذكر لله. وذلك أمر ميسور بحمد الله.
وقد جلست مع رجل في المسجد الحرام فحدثني ساعة فما كف لسانه عن ذكر الله، فكل كلمة يقولها يبدأها ويختمها بالتسبيح أو الحمد أو الصلاة على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إن شاء الله أفعل كذا وكذا، أو بإذن الله يكون كذا وكذا، مع الاستمرار في الدعاء لي وله حتى انفض المجلس وقمنا ذاكرين كما جلسنا ذاكرين فغبطته على ذلك واقتديت به في هذه الطريقة المثلى والسنة الحسنة، لكني لم استطع أن أكون مثله كما ينبغي.
وما علينا إلا أن نصحح النية ونوكد القصد، ونعقد العزم على الإكثار من ذكر الله في جميع أوقاتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ونستلهم من الله الرشد، ونستمد منه التوفيق والعون.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ
المقالات ذات الصلة
مقالات وموضوعات متنوعة
مَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ مِنِّا
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حليم كريم رحيم بطبعه، يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة المقنعة. فقد قال لهذا الرجل وأمثاله: "مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّي" أي من صدر الغش منه فليس على نهجي وسنتي،وليس هو من أحبابي، ولا تناله شفاعتي، ولا يحظى بالانتساب إلى يوم القيامة، وإن كان لم يخرج بذلك عن الإسل...
جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ
كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة على كل مسلم قادر على نفقاتها وتبعاتها، فقد فتح الله بابها بعد بيعة العقبة الثانية للأنصار، وذلك بعد البعثة بثلاث عشرة سنة تقريباً، ولم يغلق بابها إلا بعد فتح مكة حين قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ". وقد بايعه الأنصار على أن ينصروه...
مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ
وقد أوصانا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في أحاديث كثيرة، كان منها هذا الحديث الذي يعتبر – في نظري – من أهم الوصايا التربوية التي تتعلق بالنشئ.وذلك لأن الصلاة عماد الدين، وركنه الركين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وربه – عز وجل -، كما بينا في وصية سابقة. ولها من الفضائل الكثيرة ما عرفناه، وما لم نعرفه.
أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ
وفي هذه الوصية يرسم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخطى لمن أراد العزة وسعى إليها، ويحدد معالم الطريق إلى الله في تؤدة واتزان، فيسأل أصحابه البيعة على أمور تضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة، فيستوضحون منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بنود المبايعة وقواعدها وشروطها، فيجيبهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما جاء في هذا ا...
النَّهْيِ عَنْ نَشْدِ الضَّالَةِ فِي الْمَسْجِدِ
بنيت المساجد لإقامة الشعائر من صلاة، وذكر، وتلاوة القرآن، وتدريس العلوم الشرعية واللغوية وغيرها من العلوم التي تفيد الناس في دينهم ودنياهم.وتعظيم المساجد من باب تعظيم الشعائر، وهو أمارة من أمارات التقوى، وبرهان من براهين سلامة القلوب مما يعكر صفو الإيمان، ويكدر جلوة اليقين.
أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ
إذا أراد الله بعبد خيراً، هداه إلى دينه القويم وصراطه المستقيم، وثبت قلبه على الإيمان الصادق فسعد بذلك في دنياه وآخرته. وعبد الله بن سلام حبر من أحبار اليهود، كان واحداً من أولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام، فاجتمع عليه لبه وقلبه فعقل عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً من الكلمات الجامعة والحكم البالغة، ووعاها وأداها كما س...