أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ

أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ

أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ

عَنْ أَبِي عبد الرحمن عُوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

كُنَّا جُلُوساً عِنْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟" وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟" فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟" قَالَ فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا"، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً: وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا"، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ".

كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي أصحابه رضوان الله عليهم بالتعفف عن المسألة والتنزه عما في أيدي الناس، والقناعة بما في أيديهم والزهد في الدنيا بوجه عام، والاعتزاز بالله عز وجل، والثقة بفضله، وحسن التوكل عليه، والرضا بقضائه وقدره، وإقراره بالعبادة والتوجه إليه بالدعاء الخالص في تمسكن وتواضع.

وفي هذه الوصية يرسم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخطى لمن أراد العزة وسعى إليها، ويحدد معالم الطريق إلى الله في تؤدة واتزان، فيسأل أصحابه البيعة على أمور تضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة، فيستوضحون منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بنود المبايعة وقواعدها وشروطها، فيجيبهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما جاء في هذا الحديث.

يقول الراوي عوف بن مالك:

"كُنَّا جُلُوساً عِنْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً"

أي كان عددنا قليلاً لا يتجاوز التسعة، وهو يدل على أن الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه البيعة كانوا يعدون على الأصابع؛ لأنها بيعة لا يوفى بها إلا الأخيار من عظماء الرجال.

وهذا لا يمنع أن يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عرض هذه البيعة على آخرين وآخرين، فبايعه هؤلاء وأولئك على السمع والطاعة والوفاء، لما فيها من خيري الدنيا والآخرة.

وقوله: "جُلُوساً عِنْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

فيه تأدب معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرواية عنه؛ إذ لم يقل – مثلاً –: كنا جلوساً مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذ في المعية نوع تسوية ولو من بعيد، بخلاف العندية فإنها لا تعني التسوية من قريب ولا من بعيد، ولكنها تعني القرب والمجاورة، فافهم الفرق بين التعبيرين وعض عليه بالنواجز، وتعلم الأدب مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصحابه واجعلهم قدوتك في أقوالك وأفعالك، فهم من بحار علمه قد اغترفوا، وعلى طريقه نهجوا فكانوا على الهدى، لمن استهدى أدلاء.

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ"

فيه دعوة بلطف إلى ما يريد أن يبايعهم عليه؛ فالاستفهام هنا للمبالغة في الحث على المبايعة والترغيب في الإسراع إليها بحزم وعزم، وقوله: "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ" أولى في الملاطفة والرفق من قوله مثلاً: ألا تبايعونني؛ فإن عنوان الرسالة يشعر المخاطبين بعظمة البيعة وعظمة المبايع والمبايع.

وقول الراوي: "وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ" أي حديث عهد بإسلام، ويقصد بالبيعة بيعة العقبة الثانية قبل البيعة على الهجرة وبيعة الجهاد والصبر عليه.

والمبايعة معناها: المعاهدة، مأخوذة من البيع، وهو تبادل المنافع بين البائع والمشتري، والمناولة للسلعة والثمن بالأيدي، فشبه من يضع يده في يد أخيه ليعاهده على شيء بالبائع والمشتري حين يضع كل منهما يده في يد الآخر؛ توكيداً لإتمام البيع والرضا به.

قال الراوي: "فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ". أي قد عاهدناك من قبل على السمع والطاعة.

ثم قال: "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ" مرة أخرى؛ للدلالة على أنه يريد أن يبايعوه على أمور أخرى غير التي بايعوه عليها وإن كانت وثيقة الصلة بها.

قال الراوي:

"فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟"

أي: قد نزلنا على رغبتك في المبايعة وهيأنا أنفسنا لها، فنزل الأمر المستقبل منزلة الماضي؛ لتحقيق الوقوع وتوكيد المبادرة إلى المبايعة من غير توقف ولا توان، كقوله تعالى:

{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ }

(سورة النحل: 1)

أي هو آت لا ريب فيه.

وقد عرفنا من خلال دراستنا لعلم البلاغة أن التعبير بالفعل الماضي عن المضارع يكون لتحقيق الوقوع، والتعبير بالفعل المضارع عن الماضي يكون من أجل استحضار الصورة في ذهن المخاطب، كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام:

{ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ }

(سورة الصافات: 102 )

فهو يستحضر صورة الذبح التي رآها في المنام بقلبه وعقله ويدعو ولده إلى استحضارها منه ليرى رأيه فيها.

ثم سأل الراوي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأمور التي يريد أن يبايعهم عليها، فقال رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه:

"أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ".

وقد ذكرها على وجه الخصوص؛ لأنها أفضل العبادات على الإطلاق، فالصلاة برهان على صحة الإيمان وسلامة اليقين كما عرفنا في وصايا سابقة.

قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"وَتَسمَعُوا وَتُطِيعُوا".

أي تسمعوا النصح وتقبلوه وتطيعوا الله والرسول وكل من أمركم بالمعروف ونهاكم عن المنكر ودعاكم إلى الخير.

قال الراوي: "وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً". أي همس في آذاننا همسة الناصح الأمين بكلمة أخفاها؛ لتكون أوقع في النفس وأعمق في الدلالة على حبه لهم وحرصه عليهم.

وهذا شأن من ينصح رجلاً بنصيحة غالية يشعره حين يكاشفه بها صوت خافت أنه يؤثره بها على غيره، ويقدمها له تحفة منه إليه.

قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصوت خافت حنون:

"وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا".

يا لها من وصية يمشي المجد في ركابها، وتسير العزة في رحابها نحو من سمعها فوعاها وعمل بها.

إن هذه الوصية الأخيرة ترجمة لأوصاف أناس أعزهم الله وعظم شأنهم في العالمين، وأثنى عليهم ثناء يغبطون عليه في قوله عز وجل:

{ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }

(سورة البقرة: 273).

فقد ارتسمت العفة على وجوههم فكستا جلالاً وجمالاً وهيبة وسماحة ووجاهة، بحيث إذا رآهم الرائي لا يظن أنهم من أهل الفقر والفاقة؛ لأنهم استغنوا بالله وحده عمن سواه وأحسنوا التوكل عليه، فكفاهم ربهم ذل السؤال ووسمهم بسيما العزة والغنى.

{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }

(سورة الطلاق: 3).

إن الغنى غنى النفس، وإن العزة كل العزة في الإيمان، والخير كل الخير في حسن التوكل على الله، والسعادة كل السعادة في تقوى الله عز وجل.

يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ – يعني المال –وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ".

ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ". وَعَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى". قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُشهدكم عَلَى حَكِيم أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ، يُغْنِهِ اللَّهُ".

واليد العليا هي المنفقة – كما جاء في حديث آخر – واليد السفلى هي السائلة، والفرق بينهما كالفرق ما بين العزة والذلة.

وعلى المرء أن يبدأ بنفسه وبمن يعول من أهله، ثم يعطي من ماله الأقرب فالأقرب من الفقراء والمساكين ومن غير مَن ولا أذى.

وخير الصدقة ما أخرجه من فضل ماله وكان مستغن عنه؛ لقوله تعالى:

{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ }

(سورة البقرة: 219)

أي ما زاد عن الحاجة وسهل على النفس إخراجه.

ومن يطلب العفة عما في أيدي الناس، يعفه الله عنهم بفضله وكرمه.

أما من يستمريء السؤال ويستسهله ويتخذه عادة، فإنه يظل في حاجة إليهم دائماً حتى يتوب إلى الله من ذلك ويعف نفسه عنهم.

وقد جاء في الخبر: "مَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ  فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَبْعِين بَابًا مِنْ الفَقْر".

وما أحسن قول القائل:

لا تســأل بنــي آدم حــاجــة                وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله                وبني آدم حين يسأل يغضب

إن المسلم الحق هو الذي يعتز بالله عز وجل، ويعيش في كنفه راضياً بقضائه وقدره، قانعاً بعطائه، شاكراً لنعمائه، يرى في المحن منحاً فيشكر ربه تبارك وتعالى ويحمده حمداً متواصلاً في المنشط والمكره، ولا يغفل عن ذكره في ليله ونهاره؛ إذ لولا الذكر ما اطمأن القلب، وطمأنينة القلب هي النعمة الكبرى على الإطلاق، ولا ينالها إلا المؤمنون المخلصون.

يقول الله عز وجل:

{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }

(سورة الرعد: 28).

أي بذكر الله لا بغيره تطمئن القلوب، وهذا هو السر في تقديم الجار والمجرور؛ فإن التقديم يفيد الاختصاص – كما هو معروف – عند علماء البلاغة.

وعزة المؤمن في إيمانه وعفته، وتقواه وجهاده في سبيل الله، وتفرغ قلبه لخالقه ومولاه.

فلا عزة لكافر مهما أوتي من مال وجاه.

{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }

وكيف يعز الله من كفر به وجحد نعمه وخرج عن الفطرة التي فطره عليها وطلبها من غيره!!.

يقول الله عز وجل:

{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا }

(سورة فاطر: 10).

وكيف ينال العزة من سأل الناس وألح في المسألة وبالغ في الإلحاح! إنه أمر يتنافي تماماً مع التعفف والتوكل، وهما من أعظم شعب الإيمان وأسماها.

ولذا حذر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السؤال ونفر منه الأسوياء من الرجال، فقال فيما قال:

"مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ فَليَسْتَكْثِرْ"

أي من سأل الناس وهو في غير حاجة ماسة إلى السؤال ليكثر من ماله – كما يفعل المحترفون للتسول – فإن مسألته تكون عليه ناراً في الدنيا وفي الآخرة، فمن
شاء استكثر من السؤال، ومن شاء استقل؛ فالجزاء يكون على قدر الكثرة والقلة، ولا يخفي ما في ذلك من توبيخ وتقريع وتنفير وتحذير.

إن المسألة لا تجوز إلا لمن اضطر إليها؛ لما فيها من خدش للكرامة وذهاب لماء الوجه.

يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"إِنْ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ".

وما دامت المسألة تكد وجه الرجل أي تخدشه وتذهب بحيائه – فإنها لا تجوز؛ لأن الحياء شعبة من الإيمان، بل هو من أهم شعبه كما قدمنا، فمن ذهب حياؤه ذهب إيمانه، فلا ينبغي أن يلجأ الرجل إليها إلا للضرورة القصوى، وليتوجه أولاً إلى من بيده أمر المسلمين، فإن لم يسعفه توجه إلى الأخيار من الناس فعسى أن يجد عندهم ما يسد به خلته.

ولكن عليه أن يتوجه إلى الله بقلبه ويسأله قضاء حاجته على يد من شاء من الناس، فيقول في نفسه بضراعة وخشوع: اللهم إني أتوجه إليك بقلبي لقضاء حاجتي، وأذهب إلى فلان أخذاً بالأسباب، فاجعله سبباً لقضاء حاجتي إن شئت، أو اجعل غيره سبباً لذلك، واختر لي الخير حيث كان وأرضني به، واكفني بالحلال الطيب.

فعندئذ يكون في الحقيقة متوجهاً إلى الله وحده آخذا بالأسباب كما أمره.

وإذا سأل واحد من الناس فلا يُلح عليه في المسألة ولا يكثر من الشكوى؛ فإن الشكوى لغير الله مذلة للناس، وإساءة أدب مع الله عز وجل.

لا تشكون لغيــر ربـك علة                 فهو العليم وغيـره لا يعلــم

فإذا شكوت لغير ربك فإنما                 تشكو رحيما للذي لا يرحم

والناس لا يحبون الشكوى والضجر والإلحاح في المسألة؛ لأن كل واحد منهم مشعول بنفسه، ولديه ما يكفيه من هموم الدنيا وأوجاعها، وهم يبغضون من يشكو إليهم كل البغض، ويحقرون كل من يسألهم شيئاً ولو كان تراباً.

لو سئل الناس التراب لأوشكوا                 إذا قيل: هات أن يملوا فيمنعوا

قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَنْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ".

أي: من أصابه فقر شديد فشكى إلى الناس ما نزل به واعتمد عليهم في قضاء حوائجه – وكله الله إليهم، فلم ينل منهم شيئاً؛ لأن قلوبهم بيد الله عز وجل، وهو لم يتوجه إليه بقلبه.

ولو سأل الله وحده واتخذهم أسباباً فقط – لأعطاه ما يعطي السائلين من واسع فضله ورحمته، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء إذا لاذ به واحتمى بحماه.

ولقد ضرب أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المثل الأعلى في العزة والإباء والثقة بفضل الله، فكانوا لا يسألون الناس شيئاً، ولا ينظرون إلى ما في أيديهم، ولا يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله.

وقد بايعوا نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك فوفوا له بما عاهدوه عليه وبالغوا في الوفاء، حتى كان أحدهم إذا سقط سوطه من فوق جمله، لا يسأل أحداً أن يناوله إياه. فكانوا قدوة لغيرهم في العزة والتعفف والإباء، رضوان الله عليهم أجمعين.

وينبغي علينا أن نحذو حذوهم في الكف عما في أيدي الناس والقناعة بما في أيدينا، وبذل ما زاد عن حاجاتنا لذوي الحاجات ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، والطاعة
على قدر الطاقة كما يقول الفقهاء.

ومن بذل وعف فقد استكمل الجود والكرم.

وخير الناس أنفعهم للناس وأبعدهم عما في أيديهم.

ومن أراد العزة، سلك مسالكها مستعيناً بالله على نفسه وهواه وشيطانه ودنياه.

فمن فعل هذا، كان في الثريا، يرمقه الناس بأبصارهم ويغبطونه على ما هو فيه من غنى وإن كان قليل المال مغمور النسب.

وما أحسن قول الشاعر:

إذا أظمأتـــك أكــف اللئـــام                كفتك القناعة شبعا وربا

فكن رجلاً رجله في الثرى                 وهامــة همته في الثريا

فإن إراقـــة مــــاء الحيـــاة                 دون إراقـة مــاء المحيا

إن الإسلام أعز معتنقيه بعزة الإيمان واليقين، ومكن لهم في الأرض، وأسند إليهم أزمة الأمور في تعميرها وإصلاحها وإقامة حدود الله فيها بروح من التعاون البناء والمساواة التامة، والعدالة المطلقة والحب المتبادل، والإخلاص لله في القول والعمل، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والسمع والطاعة لمن أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وعلمهم كيف يسمو المرء منهم بنفسه عن الدنايا حتى يصل إلى مراتب القرب من خالقه ومولاه، فيعتصم به ويتوكل عليه ويخضع إليه ولا يخضع لأحد سواه؛ لعلمه التام أن الناس لا ينفعونه إلا يشيء قد كتبه الله له، وأنهم لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وأنهم مجرد ممر للعطاء أو مظهر للمنع.

روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا ترضين أحداً بسخط الله، ولا تحمدن أحدا على فضل الله، ولا تذمن أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا ترده عنك كراهية كاره، وإن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في السخط".

وهذا الحديث لا يعني جحود الصنيع ولا ازدراء الفضل لمن أسدوا الفضل؛ فإن الحديث يقول:

"من لا يشكر الناس لا يشكر الله".

ولكن معناه: ألا يستعبد المرء بمنة وصلته حتى تداس كرامته! فإن المنة لله أسبق، ولا يجوز للمعطي أن يقصد بهبته شراء الأنفس والتصرف فيها كما يجب؛ فإن هذا يحبط أجره، وكان ذلك القصد – ولا يزال – شأن الذين يؤتون لغير الله، ولذلك تأفف الأحرار من عطاياهم:

لاه ابن عمك، لا أفضلت في نسب             عني ولا أنت دياني فتخزوني

أما الذين يعطون لله، ويؤدون حقوق العباد ابتغاء وجهه، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان مكافآتهم:

"مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَلْيَجْزِ بِهِ إن وجَدَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ، فَإنَّ مَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ"

وبعد فقد طوفت بك – أيها القاريء الكريم – حول هذه البيعة النبوية في مواطن العز والكرم، والإباء والشمم، لعلك تبايع ربك عز وجل وتعاهد نبيك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علة أن تعبد ربك عز وجل بإخلاص تام، وأن تقيم الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة، وأن تسمع وتطيع من أمرك بمعروف أو نهاك عن منكر، وأن تقنع بما آتاك الله وتزهد فيما في أيدي الناس ما استطعت.

وقد مر بك وصية كريمة في هذا الكتاب جاء فيها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"عَلَيِكَ بِالْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ الغِنَّى، وَإِيَاكَ وَالطَّمَعُ، فَإِنَّهُ الفَقر الحاضر، وَصَلِّ الصَلَاةَ وَأَنْتَ مُوَدِّعٍ".

نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.

المقالات ذات الصلة

مقالات وموضوعات متنوعة

المقالات

اشترك للإطلاع على جديد الموقع